
كيف أُعلِّم ولدي خصال المؤمنين في القرآن ( المحاضرة الاولى)
الشيخ حسين عبد الرازق
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون1َ﴾ [يونس: 57-58].
بين الله تبارك وتعالى في هذه الآية المباركة أن من كان مسلمًا مهتديًا بالقرآن العظيم فقد أتم الله له النعمة. وهذه هي الأمور التي تستحق أن يفرح بها الإنسان.
أفتتح كلمتي للوالدين الكريمين في هذه السلسلة الجديدة، التي أرجو أن تكون معينة للوالدين على تنشئة أبنائهم على الهدى والصلاح، ليكونوا على بينة وهدى ونور وبصيرة.
أهداف السلسلة
قبل أن أبدأ، أحب أن أبين أن أكثر ما أهتم به هو أن أكون معينًا بإذن الله تبارك وتعالى لصنفين من الناس على ما يطلبون:
الصنف الأول: كل شاب يريد أن ينشأ في طاعة الله، وأن يتعلم دينه، وأن يسارع في الخيرات.
الصنف الثاني: كل والد ووالدة يحب الخير لولده ويريد أن يعينه على دينه وأن يمهد دينه ويسعى في صلاحه.
لذلك، كانت هذه السلسلة تكملة لسلاسل سبقت للوالدين، مثل سلسلة "بناء الأسرة المسلمة" والسلسلة الثانية "كيف أعلم ولدي محكمات الإسلام" التي كانت بعنوان: “يا بني إني معلمك”
الانطلاق من القرآن الكريم
من أين نبدأ في هذه السلسلة؟ أنا أحب أن أبدأ مما ذكره الله تبارك وتعالى عن المشركين. ذكر الله تبارك وتعالى عن المشركين في سور كثيرة أنهم جمعوا مع الكفر الصد عن سبيل الله، وأرادوا أن يحولوا بين أبنائهم وبين الإسلام. وذكر الله هذا كأعظم فتنة يتعرض لها الشاب المسلم.
وذُكر في السورة التي تتحدث عن أصناف الفتن، وعن جزاء الصابرين الذين يجاهدون أنفسهم، وهي سورة العنكبوت. ذكر الله سبحانه وتعالى في أولها: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: 2-3].
ثم ذكر أول فتنة بعدما أمر ببر الوالدين، قال: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ [العنكبوت: 8]. هذا يدل على أن الصحابة واجهوا فتنًا من أعظمها أن يجاهده والداه على ترك الإسلام وعلى البقاء في الكفر. والله تبارك وتعالى ذكر ذلك في القرآن كثيرًا، أن هؤلاء المشركين يصبرون على الكفر ويصبرون الناس على الكفر، وذكر منهم من كان عدوًا للأنبياء، فهم كفار وهم أعداء للأنبياء. ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الفرقان: 31].
دعاء المؤمنين لأهلهم وأبنائهم
في المقابل، ربنا سبحانه وتعالى ذكر المؤمنين الصادقين الذين من فرحهم بالإسلام أرادوا أن يسلم كل الناس، وأعظم من يريدون له هذا الإسلام هم الأهل والأبناء. فذكر الله سبحانه وتعالى خصالهم في هذا الموضع الجامع العظيم في آخر سورة الفرقان، من أول ما قال: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63]. ثم قال: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74].
في الواقع، هذه الآية من أعظم الآيات في خصال المؤمنين. لماذا؟ الله سبحانه وتعالى بين أن المؤمن الذي هداه الله للإيمان والإسلام وذاق حلاوة الطاعة، يريد أن ينتشر هذا الإسلام ويريد أن يبثه ويريد أن يكون له الأجر. طيب، من هم أكثر الناس الذين يريد أن تُقر عينه بإسلامهم؟ الزوجة والأبناء.
فعندنا في هذه الآية أمران:
الأمر الأول: أن خير والد لولده هو الذي يحب له الخير ويعينه على دينه وعلى استقامته وصلاحه.
الأمر الثاني: أنه لن ينصلح ولدك ولا أهلك إلا بتوفيق الله تبارك وتعالى.
فلذلك سئل الحسن البصري رحمه الله عن هذه الآية: "ما هي قرة الأعين؟ أهي في الدنيا أم في الآخرة؟" قال: "لا، بل والله في الدنيا، ما شيء أحب للمؤمن من أن يرى أهله وزوجه وحبيبه وحميمه في طاعة الله."
يعني يبين هذا المعنى أنك تقر عينك بصلاح أهلك وولدك. وهذا يدل على أن المؤمن ولو حِيزَت له الدنيا فلن تتم فرحته بشيء إذا لم يكن أهله وولده على هدى وصلاح.
أمثلة من الأنبياء على الحرص على هداية الأهل
أصلاً هذه الآية لها سبب نزول، وهي أن الصحابة لما أسلموا كانوا يواجهون ابتلاءً عظيمًا، منهم من يسلم ويكون أبوه كافرًا أو أمه كافرة أو ولده كافرًا أو زوجته كافرة. فكانت قرة عين أحدهم أن يسلم أحبابه وأن يراهم على هدى واستقامة، فهذه جنة الدنيا لدى هذا المؤمن.
وأنت إذا نظرت في رسل الله عليهم السلام ستجد هذا أمرًا عظيمًا بيِّنًا عندهم.
نوح عليه السلام: دعا قومه وأهله إلى الهدى والتوحيد والإيمان. ولما كفر ولده وكان مع الكافرين، دعاه نوح عليه السلام ثم خاطب ربه تبارك وتعالى في ولده: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾ [هود: 45]. إلى آخر الآيات. وكانت أعظم ما يرجوه نوح عليه السلام في هذا المشهد أن يكون ولده مع المؤمنين الصالحين الناجين. لكن ولده غرق في الدنيا، أهلكه الله، وفي الآخرة هو في النار كما قال الله: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ [نوح: 25].
إبراهيم عليه السلام: كذلك لما هداه الله تبارك وتعالى خالف أباه وقومه، ودعا أباه وقومه قال: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا﴾ [مريم: 42]. إلى آخر الآيات.
النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مع عمه وحبيبه أبي طالب: أتاه لما حضرت أبا طالب الوفاة، قال: "يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله". [صحيح البخاري: 3884، صحيح مسلم: 24] وبقي يحاول معه لينجو بهذه الكلمة.
فأنت تلاحظ أن هذا خط عام في القرآن، وهو أن المؤمن كما أن الله تبارك وتعالى هداه، فإنه يسعى في بث هذا الإسلام ونشره. وأكثر من يحرص المؤمن على هدايتهم أهله وزوجه (زوجته).
وصية إبراهيم لأبنائه واستمرارها في الذرية
من هذا المعنى، وهو المعنى العظيم: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ [الفرقان: 74]، نلاحظ أن إبراهيم عليه السلام مثلاً جعل هذه الكلمة باقية في عقبه. ما معنى ذلك؟ جاء هذا في سور كثيرة: في سورة إبراهيم، وفي سورة البقرة، وكذلك في سورة الزخرف.
دعونا نأخذ مثلاً هذا الموضع في سورة البقرة: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي 2ۖ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 131-133].
هذا أهم ما يشغله. أهم ما يوصي به المؤمن بنيه هو الإسلام والتوحيد والطاعة والعمل للآخرة والاستعداد للقاء الله. هذا أعظم ما يشغله: "ما تعبدون من بعدي؟" يريد أن يطمئن عليهم. هذا هو المسلم الصالح الذي يحب الخير لولده، فإنه لو جمع له الدنيا بما فيها ولم يهتم بدينه وصلاحه، فسيموت يوم يموت وهو غاشٌّ له.
فنلاحظ أن الله تبارك وتعالى بين أن إبراهيم وصى بها وأراد أن تكون هي وصية أبنائه لأبنائهم، يعني أن يورثها جيل لجيل. فلذلك لما يوسف عليه السلام قال للسجينين معه: ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِن فَ3ضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [يوسف: 37-38]. فاصبحت هذه الكلمة باقية.
كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: 26-28]. يعني أن إبراهيم عليه السلام وجد أباه وقومه على الكفر يعبدون الأصنام، فخالفهم واستقام على هدى الله. فلما هداه الله أراد أن تبقى هذه الهداية هي وصية كل أب لأبنائه، يعني أبقاها إبراهيم في أبنائه ودعا لهم: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35]، وأراد أن تبقى هذه وصية يورثها كل والد لولده.
أولويات التربية: صلاح الأبناء قبل كل شيء
في الواقع، إن هذا الأمر عظيم جدًا، وهو أن يكون أعظم ما تسعى فيه بالنسبة لولدك هو ما ينفعه في الآخرة عند لقاء الله. ثم بعد ذلك تفكر في شكله ولبسه وطعامه ودراسته كما تشاء، وهذا ميدان واسع.
فلذلك كثير من الناس يهتم برعاية الولد ولا يهتم باستقامته. يعني يرعاه في مأكله ومشربه وملبسه والنادي والمدرسة ودروس الرياضيات ودروس الإنجليزي، وربما بعضهم يسافر إلى بلاد مثلاً أوروبا أو أمريكا أو غيرها، يقول لك: "عشان يكون ابني معاه جنسية قوية". طيب، أنت تريد أن تؤمن مستقبل ولدك. أعظم ما إن صحت هذه الكلمة، يعني تأمين المستقبل، معناها أن يبقى ولدك محفوظًا مصانًا في فترة بقائه في الحياة الدنيا. أعظم ما تؤمن به حياته في الفترة التي يعيش فيها هي أن تعينه على الصلاح، بذلك يتولاه الله. قال الله عز وجل: ﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ [الأعراف: 196].
فأنت إذا لاحظت أن إبراهيم عليه السلام قال: ﴿إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [الزخرف: 26-27]. وهذا فيه نفي وإثبات، في أن إبراهيم علمهم الحق والخير ليتبعوه، وكذلك حذرهم من الباطل.
وأبناؤنا يعيشون حولهم كثيرًا من أصناف الباطل: الإلحاد والتنصير وفتنة الدنيا والاشتغال بأمور تافهة فارغة تسرق أعمارهم وتفتنهم عما خلقوا له. فبالتالي أنت تريد هذا الأمر، وهو أن تسعى في صلاح ولدك وأن تعلمه أخص ما يحتاجه.
وصايا لقمان لابنه: نموذج للحكمة في التربية
لو أنت نظرت في من ذكرهم الله سبحانه وتعالى من أهل الخير والهدى، لقمان مثلاً. لقمان هذا الذي ذكره الله سبحانه وتعالى بالحكمة: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [لقمان: 12].
شوفوا هذه الآيات، الله سبحانه وتعالى ذكر رجلاً من الناس في كتابه، وسمى سورة باسمه تُتلى إلى ما شاء الله. طيب، ما الذي ذكره الله عن هذا الرجل؟ ذكره بالحكمة، أن الله آتاه الحكمة. ومن معاني الحكمة أن يقول القول في موضعه وأن يفعل الفعل في موضعه. طيب، هذه الحكمة ابتلاه الله بها، اختبره بها، ينظر ماذا يفعل فيها. قال: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ﴾ [لقمان: 12].
طيب، ما هو شكر هذه الحكمة؟ الذي ذكره الله عنه أنه جلس مع ولده يعلمه أعظم ما يحتاجه في الحياة الدنيا: علمه عن الله، وعن إخلاص الدين لله، وعلمه أسماء الله ومحامده وأفعاله وسننه، وكلمه عن الحقوق عليه، وأعظمها بعد حق الله حق الوالدين، ثم كلمه عن مراقبة الله وعن إحاطة علمه، كما جاء في الآيات.
سنقرأ هذه الآيات ولن نقف معها كثيرًا، فقط نقرأها لنعلم منزلة الوالد الذي يعلم ولده أخص ما يحتاجه في حياته الدنيا، أن يعلمه دينه، يعلمه عن ربه، عن كتابه، عن رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْن4َا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (515) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان: 12-19].
الشريعة رحمة وليست تكليفًا بحتًا
نلاحظ أنه يعلمه كل شيء ويبين له لماذا يعلمه هذا الأمر. ولذلك وصف القرآن في هذه السورة بالرحمة، كما وصف في سورة الإسراء بالرحمة. وإذا وصف القرآن بالرحمة كما جاء في سورة الإسراء [الآية 82] وجاء في سورة يونس [الآية 57] وهنا في سورة لقمان [الآية 15] وغيرها من السور، هذا يدل على أن الله سيبين أن هذه الشريعة رحمة. يعني أن الله تبارك وتعالى يرحمنا بها: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ﴾ [النساء: 28]. ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].
فشيء الإسلام لا تسمى تكليفًا، وإنما هي رحمة، هي تخفيف، هي تطهير، هي تزكية. وتسمية التشريع تكليفًا هذا جاء متأخرًا. فهو يعلم ولده لماذا يأمره ولماذا ينهاه: ﴿لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].
هذه الصفحة من السورة هي الحكمة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى عن لقمان ذلك الرجل الصالح. وهذا يدل على أن المؤمن لا يمكن أن يكتمل إيمانه كوالد وهو مفرط في تعليم ولده ما يحتاجه من دين الإسلام. وكثير من الآباء والأمهات لا يعتنون بهذا الباب ولا يعطونه حقه من التفكير والتخطيط والوقت والاجتهاد. ربما مثلاً يرسل ولده إلى مدرسة أو إلى مركز أو إلى مخيم وانتهى الأمر. فكر كده أن الموضوع انتهى، لا!
الأب والأم: حلقة الوصل بين الأبناء ودين الإسلام
أنت حلقة الوصل بين ولدك وبين دين الإسلام، التي هي "صبغة الله". بمعنى أنك بقولك وفعلك وإرشادك وتعليمك وتوجيهك وقربك من ولدك، أنت دليله على طريق الله. فمن هنا فكرت في هذه السلسلة لتكمل السلسلة الأخرى "يا بني إني معلمك".
"يا بني إني معلمك" فكرتها: كيف تعلم ولدك محكمات الإسلام؟ التي هي الأمور الكبرى في الإسلام: الكلام عن الإسلام وعن نعمة الإسلام، والكلام عن الله تبارك وتعالى وأسمائه ومحامده وسننه وأفعاله، والكلام كذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن شريعة الإسلام، وعن الصلاة والزكاة والصيام، الذي هو ما بني عليه الإسلام. وهذه السلسلة الحمد لله انتهت في أكثر من 30 حلقة.
والآن هذه السلسلة هي في خصال المؤمنين في القرآن التي هي صبغة الله. السورة التي يريد الله من المؤمن أن يكون عليها ظاهرًا وباطنًا، في السر والعلانية، في كل مشهد من مشاهد حياته: عند النعمة وعند الابتلاء، عند الفرحة وعند المصيبة، في السر وفي العلانية، مع ربه مع أصحابه مع والديه مع زملائه وهكذا.
خطة السلسلة الجديدة
هذه السلسلة أريد منها إن شاء الله تبارك وتعالى أن تكون مادة بين يدي الوالد والمعلم في مجالس القرآن مع ولدك. كيف ذلك؟ نحن عندنا تقريبًا 40 حلقة في هذه الدروس إن شاء الله. الفكرة أن كل حلقة نختار فيها آيات ذكر الله فيها خصال المؤمنين، التي هي صفات المؤمنين الذين رضي الله عنهم ورضي لهم هذه الخصال. فناتي بالترتيب من أول سورة البقرة إلى سورة الناس. كل موضع في القرآن فيه خصال المؤمنين، سنقرأ وسأحاول أن أعلم الوالد الكريم.
كلمة "الوالد" هنا تشمل الأم والأب. و"الولد" يشمل الذكر والأنثى. والوالد كذلك يشمل الأم والأب. فحينما أقول "الوالد" أقصد الأم والأب.
كل والد أو والدة يريد الخير لأبنائه لا بد أن يشغل تفكيره: كيف أكون سببًا في تعليم أبنائي وهدايتهم وصلاحهم؟ هذا أكثر ما يفكر فيه. ربما يغير مكان السكن، ربما يغير الوظيفة، ربما يقلل ساعات العمل، ربما ينفق من ماله لأجل هذا الأمر. لماذا؟ لأنه يشغله.
ونلاحظ أن هذا أمر ينبغي أن يتوارثه الأجيال، الذي هو تحمل مسؤولية إصلاح الأبناء، وتحميل هذه المسؤولية لأولئك الأبناء حينما يصيرون آباءً. وهذا معنى: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74]. نأتَم بمن قبلنا، ونكون قدوة لمن بعدنا.
فهذه السلسلة، خلاصتها أني جمعت الآيات التي ذكر الله فيها خصال المؤمنين في القرآن، وحاولت أن أقدمها للوالد أو المعلم، كيف تجلس مع ولدك تفتح المصحف. ما أجمل هذه الجلسة! تصور كده أنك أنت في المنزل، ثلاثة أيام في الأسبوع أو كل يوم مثلاً خمس دقائق فقط، تجلس مع الزوجة والأبناء، تتلو هذه الآيات وهم يتلونها بعدك أو معك، أو كل واحد منهم يتلو هذه الآيات، ثم تقف معهم تتدبر هذه الآيات وتستخرج ما فيها من العلم والعمل.
والله هذه بركة المنازل في بيوت ﴿أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [النور: 36-37]. إلى آخر الآيات. فمن أعظم مجالس القرآن مع الأبناء أن تعلمهم ما هي صبغة الله التي يريد الله منهم أن يكونوا عليها.
فأنا جمعت لكم أكثر من 40 موضعًا من كتاب الله. سنقف في كل درس منها على موضع، نتلو الآيات أولاً، ثم نتعلم كيف نتناول هذه الآيات لأبنائنا لنعلمهم صبغة الله وخصال المؤمنين.
واجبات الوالدين في السلسلة
طبعًا سيكون على الوالدين واجبات، منها مثلاً أننا سنخبر بالموضع الذي هو في طريق الدراسة، بحيث أن الوالد يحضر هذا الموضع؛ لأن بصراحة أريد أن أكسب أكثر من أمر:
الأمر الأول: أن يتعلم الوالد دينه بشكل مرتب ومنظم.
الأمر الثاني: أن يتعلم كيف يوصل هذه المعلومة لأبنائه فينال هذا الأجر العظيم أن يكون هو الذي يعلم أبناءه دينهم.
وصدقني والله لو أرسلت أبناءك لأفضل شيخ وأفضل معلم ووفرت لهم الكتب، هذا لا يساوي أبدًا أن تجلس أنت مع ولدك ومع أهلك وتفتح المصحف وتتلو هذه الآيات ويقرأها معك ثم تعلق على هذه الآيات بما سمعت وبما حضرت من كلام المفسرين. فهذا والله هو جنة الدنيا.
العمل الصالح: القيمة الحقيقية في الحياة
وأقسم بالله لو أبصر المسلم منزلة العمل الصالح عند الله، لعلم أن كل ما فُتِن به الناس من الشكل والجاه والنسب والمناصب والأموال والزينة والزخرف، لا يعني لو جمع كله لا يساوي عمل صالح مما يعده الناس عملاً يسيرًا. وليس في العمل الصالح ما هو قليل.
ولذلك ربنا قال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾ [الكهف: 7-8]. كل ما على الأرض: الشكل والهيئة والجسم والمناصب والمنازل والقصور والحدائق، كل هذا يجعله الله صعيدًا جرزًا، لا يبقى إلا شيء واحد: العمل الصالح. ولذلك ربنا سمى العمل الصالح في سورة الكهف: ﴿الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ﴾ [الكهف: 46]. لأنها وحدها التي تبقى.
فبالتالي أنت لا بد أن تفرق بين رعاية ولدك وبين صلاح ولدك. أنك توفر له الأكل والشرب واللبس والمدرسة والدروس والتفوق والبيت الجميل، وأنه يكون عنده جنسية قوية في وجهة نظرك أنها تحفظه، كل هذا يدخل في الرعاية. إنما الإصلاح والهداية والاستقامة، وأن ينتقل ولدك من إنسان تافه فارغ إلى مسلم نشأ في طاعة ربه، يعلم من ربه ومن رسوله، ما دينه، من الصحابة الكرام، يعلم عن الأنبياء، يعلم عن شريعة الإسلام، يعرف كيف يتوضأ، كيف يغتسل، كيف يصلي، كيف يعتمر، كيف يحج، كيف يفعل عند الفتن، كيف يفعل عند المصيبة، كيف يفعل عند النعمة. فهذا والله خير ما تورثه ولدك.
دعوة إلى الجد والاجتهاد في التربية
فلذلك استعن بالله واجتهد، وخلص نفسك من لصوص الوقت مثل الهاتف وغيره من الأمور التافهة التي تضيع عمرك. واشعر بالمسؤولية العظيمة تجاه أبنائك. وربك معك. ربنا تبارك وتعالى لن يضيعك، أنت لن تخوض هذه الرحلة وحدك، ربك معك يهدي وينصر ويسدد، وربك يهدي ولدك. فهذه مجرد أسباب نحن نقوم بها، نريد أن نحفظ بها فطرة أبنائنا، وأن نعينهم على أن يبقوا مدتهم في الحياة الدنيا على هدى من الله، وأن نكون معًا سويًا في جنات النعيم.
الدعاء الختامي والتذكير بالموعد
فندعو الله تبارك وتعالى بدعاء المؤمنين: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74]. ما أجمل هذا الدعاء! يعني: يا رب اجعل عيني تقر بصلاح أهلي وولدي. ليس في الدنيا أبدًا شيء يمكن أن يسعد به الإنسان وهو يرى ولده في معصية أو فسق أو كفر، والله لو جمعت له الدنيا. وإنما تقر عينه بولده حتى لو فقد أكثر النعم. يعني ممكن يكون هو فاقد لأكثر النعم، لكن يرى ولده في صلاح واستقامة وهدى، يتعلم كتاب ربه، يصلي، يحافظ على الصلاة في المسجد، يعني أخلاقه حسنة، تقر عينه.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه السلسلة معينة للوالدين الكريمين في هذه الرحلة العظيمة التي لها أول وليس لها آخر. يبقى الإنسان يدعو أبناءه إلى أن يلقى ربه تبارك وتعالى، ويريد أن تكون هذه الكلمة باقية في عقبه. ما معنى باقية في عقبه؟ يعني أن يبقى هذا التوحيد والهدى والصلاح بذرة زرعها في عقبه وتوارثتها الأجيال، فلا يخرج من عقبه إلا موحد مؤمن بإذن الله تبارك وتعالى.
وندعو الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه الكلمة باقية في عقبنا. وإن شاء الله سيكون موعدنا أربعة أيام في الأسبوع. وإن شاء الله قبل كل مرة سأخبر بالآيات عشان الوالدين يحضروا الآيات. وإن شاء الله تكون الدروس خفيفة جدًا لن تزيد أبدًا عن نصف ساعة بإذن الله. فبارك الله فيكم جميعًا، ونسأل الله أن يعيننا على الهدى، وأن يكون مدة بقائنا في الحياة الدنيا على هدى من الله.
فوالله الذي لا إله إلا هو، ليس شيء في الدنيا يستحق أن يشغلنا عن هذا الطريق. ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الانشقاق: 6]. فكل إنسان ينصب الآخرة أمامه وينتظر لقاء ربه، لا بد أن يعد له. ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]. والحمد لله رب العالمين.
موعدنا إن شاء الله في المدخل لهذه السلسلة غدًا، "كيف أعلم ولدي صبغة الله التي هي خصال المؤمنين في القرآن، كيف أبدأ معه؟" هذا سيكون غدًا إن شاء الله في نفس الموعد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إذا رأيت أن هذه الحلقة مهمة للوالدين وأنت تعلم من هو مهتم بهذا الأمر، فانشر هذه الحلقة عنده رجاء أن نشجعه على هذا الطريق. لأنني أريد أن الوالد يجلس يفتح المصحف ويفتح كتاب التفسير ويستمع ويحضر ويهتم بأنه يخلي موعد في المنزل عشان يجتمع مع أبنائه. هذا يهمني جدًا. والحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم
هذا المقال هو تفريغ لأول محاضرة من سلسلة
كيف أُعلِّم ولدي خصال المؤمنين في القرآن
للشيخ حسين عبد الرازق.
سلسلة كيف أعلم ولدي خصال المؤمنين (المحاضرة الاولى)
التعليقات