رحلة نزول القرآن من غار حراء إلى تدوين المصحف الشريف
منذ أسبوعين
363 مشاهدة

رحلة نزول القرآن من غار حراء إلى تدوين المصحف الشريف

ياسر جمال

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. يا عشاق الحق، والعطشى لماء الوحي الصافي، والمقبلين على العلم الشريف

إن رحلتنا اليوم ليست مجرد استعراض تاريخي، بل هي وقفة إيمانية مع أعظم حدث عرفته البشرية: نزول القرآن الكريم. هذا الكتاب الذي هو حبل الله المتين، ونوره المبين، لم ينزل عبثاً بل نزل بمنهج إلهي دقيق، وبدأ بلحظة فارقة غيّرت وجه التاريخ.

يُمثل فهم كيف بدأ نزول القرآن مدخلاً أساسياً لكل من يسعى إلى تعليم القرآن وحفظه بإتقان، فهو يرسخ الإيمان بصدق هذه الرسالة وعظمتها. في هذا المقال الشامل، سنخوض غمار الرحلة المباركة للوحي، بدءاً من اللحظة الأولى في غار حراء، مروراً بمراحل نزول الوحي مفرقا على مدى ثلاثة وعشرين عامااً، وصولاً إلى مرحلة تدوين المصحف الشريف التي حفظت النص من الضياع
المحطة الأولى: الإرهاصات وبداية الوحي في غار حراء

قبل نزول الوحي، مرّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم بمرحلة "الإرهاصات" التي هيأت قلبه لتلقي الرسالة العظمى. فقد كان النبي يميل إلى الخلوة والتفكر بعيداً عن صخب الحياة الجاهلية، مختاراً غار حراء في جبل النور ليتعبد فيه الليالي ذوات العدد.

التهيئة (الرؤيا الصادقة)

تشير كتب السنة والسيرة النبوية إلى أن أولى بشائر النبوة كانت الرؤيا الصادقة. فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت:

«أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ»

[صحيح البخاري ومسلم]

كانت هذه الرؤى تمثل تدريباً روحياً وعقلياً للنبي على تلقي الغيب، حتى ألِفَ ذلك وتطهرت نفسه لتتحمل ثقل الرسالة.

اللحظة الفارقة: نزول "اقرأ"

في رمضان من عام 610 ميلادية، وفي خلوته المعتادة في غار حراء، جاءت اللحظة الفاصلة التي اهتز لها الوجود. نزل إليه جبريل عليه السلام حاملاً أول آيات من القرآن الكريم. تروي أم المؤمنين عائشة تفاصيل هذه البداية العظيمة:

«فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)»

[صحيح البخاري]

كانت هذه الآيات الخمس من سورة العلق هي أول ما نزل من القرآن مطلقاً. وهي تحمل في طياتها الإشارة إلى جوهر الرسالة: العلم، والقراءة، والتعلم بواسطة القلم، وهو ما يربط بين الرسالة وبين الحضارة والعلم، ويؤكد أهمية القراءة والعلم  كأداة للمعرفة.

المحطة الثانية: رحلة الوحي المتقطع (23 عاماً)

لم ينزل القرآن الكريم جملة واحدة، بل نزل مفرقاً على مدى ثلاث وعشرين سنة، وهو ما يُعرف بـ نزول القرآن منجّماً. وهذا التنجيم كان له حِكَم عظيمة وجليلة تتعلق بالتشريع والتثبيت.

الحكمة من النزول المفرق

لقد ذكر الله تعالى الحكمة من هذا النزول المتقطع رداً على اعتراض المشركين، فقال: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)

[سورة الفرقان: الآية 32]
من أهم الحكم في النزول المتقطع (كما أوضحت كتب علوم القرآن والتفسير):

تثبيت فؤاد النبي: كان الوحي ينزل عليه في أصعب الظروف، فيكون بمثابة دعم إلهي لتثبيت قلبه على الحق.

تدرج التشريع: لو نزل التشريع كاملاً لشقّ على الناس، لكنه نزل متدرجاً حسب الوقائع والحوادث (أسباب النزول)، مما سهل على الأمة قبوله والعمل به.

تيسير الحفظ والفهم: نزول الآيات قصيرة أو مجموعات يسهل على الصحابة حفظ القرآن الكريم والتدبر في معانيه، خاصة في مجتمع كانت الأمية فيه سائدة. وهذا هو المنهج المتبع في تحفيظ القرآن إلى اليوم؛ التجزئة لتيسير الإتقان.

مراحل النزول الثلاث

في علوم القرآن، يفرق العلماء بين ثلاثة مراحل لنزول القرآن الكريم:

النزول الأول (النزول الكلي): إلى اللوح المحفوظ، حيث قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [سورة البروج: الآيتان 21-22].

النزول الثاني (النزول الجملي): من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا. وقد قال تعالى عن ذلك: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [سورة البقرة: الآية 185]. وهذا يفسر سر ارتباط شهر رمضان المبارك  بـ نزول القرآن.

النزول الثالث (النزول التفصيلي): من بيت العزة إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق جبريل عليه السلام، على مدى 23 عاماً.

المحطة الثالثة: الحفظ والتلقي (مرحلة الصدر والسماع)

قبل أن يعرف المسلمون الكتابة والتدوين الواسع، كانت المرحلة الأساسية لحفظ القرآن هي الحفظ في الصدور و التلقين بالمشافهة، وهذا هو السر الذي ضمن سلامة النص القرآني.

الاعتماد على الحفظ الصدري والتجويد

اعتمد المسلمون الأوائل على:

الصدر: كان الصحابة يتنافسون في الحفظ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يشجعهم على ذلك.

المشافهة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على جبريل، ثم يقرأ على الصحابة، وهم يقرؤون عليه. هذه المشافهة هي التي حفظت التجويد والقراءات من التحريف. فالحرف يؤخذ من فم المعلم بالتلقي والسماع، وهذا يفسر أهمية دور المعلم في تعليم القرآن وأيضا  تعليم القرآن الكريم عن بعد.

كُتّاب الوحي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعين صحابة متخصصين لكتابة ما ينزل من القرآن على الرقاع واللخاف وعظام الأكتاف (الأدوات المتاحة آنذاك)، وكانوا يضعون كل آية في موضعها بأمر نبوي مباشر، لا باجتهاد شخصي.

الاستعانة باللغة والبيان

في هذه المرحلة، لعبت اللغة العربية دور الحاضن للقرآن. لقد نزل القرآن بأفصح اللغات وأبينها، وكان تحديه للعرب البلاغيين في قوله تعالى:

(قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)  [سورة الإسراء: الآية 88]

دراسة اللغة والبلاغة القرآنية تُعد جزءًا لا يتجزأ من علوم القرآن، وهي ذات أهمية قصوى  وبخاصة في عصرنا الحالي لـ تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها؛ حيث يمثل القرآن قمّة الفصاحة والبيان.

المحطة الرابعة: تدوين المصحف الشريف (الجمع الأول والثاني)

بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ظهرت الحاجة لـ تدوين القرآن في مصحف واحد مُجمع، نتيجة الأحداث التي توالت بعد ذلك.

الجمع في عهد أبي بكر الصديق (رضي الله عنه)

كانت المرحلة الأولى لجمع القرآن بعد معركة اليمامة، التي استشهد فيها عدد كبير من حفاظ القرآن (القُرّاء). أدرك عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) خطورة الأمر، فأشار على الخليفة أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه)  بجمع القرآن.

السبب: خشية ضياع ما في صدور الرجال.

المسؤول: كُلّف زيد بن ثابت الأنصاري (رضي الله عنه)، لكونه كان من كُتّاب الوحي، وجمع بين الحفظ والكتابة.

المنهج: كان زيد لا يقبل الآية إلا إذا كانت مكتوبة ومحفوظة في الصدور، وشهد عليها شاهدان.

وهذا الجمع كان للنص القرآني في صحف مرتبة الآيات، غير مرتبة السور، وبقي هذا المصحف عند أبي بكر، ثم عند عمر، ثم عند حفصة بنت عمر (أم المؤمنين).

الجمع في عهد عثمان بن عفان (رضي الله عنه) (المصحف الإمام)

في عهد عثمان (رضي الله عنه)، اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، واختلط المسلمون بغير العرب، وظهرت اختلافات في وجوه القراءة بين الأمصار، كل يقرأ بحرف مما أُنزل على النبي. خشي حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه) من الفتنة، فأشار على عثمان بجمع الناس على مصحف واحد.

الهدف: توحيد الأمة على قراءة واحدة (القراءة التي نزل بها القرآن على سبعة أحرف، لكن تم توحيد الرسم على ما يوافق عامة القراءات).

الإجراء: تم تشكيل لجنة برئاسة زيد بن ثابت، وتم نسخ عدة مصاحف أُرسلت إلى الأمصار الإسلامية (مكة، الشام، اليمن، البصرة، الكوفة، المدينة) ليعتمدوا عليها في نسخ مصاحفهم وتعليم أبنائهم.

هذا العمل العظيم ضمن توحيد النص القرآني، وهو المصحف الإمام الذي بين أيدينا اليوم، وهو الأساس الذي يُعتمد عليه في تعليم القرآن الكريم واللغة العربية .

من الإرث العظيم إلى التحديات المعاصرة

إن قصة كيف بدأ نزول القرآن ورحلة حفظه وتدوينه هي قصة إعجاز إلهي، حفظ الله بها أعظم كتابه. لقد تضافرت جهود حفظ الوحي الإلهي، والجهد النبوي في التبليغ، والحرص من الصحابة رضوان الله عليهم  في الحفظ والتدوين، لتصل إلينا رسالة نقية كاملة.

اليوم، يواجه المتخصصون في تحفيظ وتعليم القرآن الكريم عن بعد تحدياً جديداً؛ وهو نقل هذا الإرث العظيم والمنهج المتقن إلى طلاب العالم عبر الشاشات. إن فهم هذه المراحل التاريخية والشرعية يُعد شرطاً أساسياً للمعلم والطالب على حد سواء؛ ليعلموا أنهم يتعاملون مع نص سماوي أُحيط بضمانات الحفظ منذ اللحظة الأولى في غار حراء.

فيا طالب العلم التواق، هل أنت مستعد للانطلاق في رحلة دراسة هذا الكتاب العظيم والالتزام بتلقيه بالطريقة الصحيحة، كما تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل؟

التعليقات


  • د. أحمد ناصر Dr. ahmed nasser
    د. أحمد ناصر Dr. ahmed nasser

    جزاكم الله خيرا على المقالة العظيمة ، ربنا يحعلنا من أهل القرآن

    منذ أسبوعين
  • الأستاذة نجوى عطية
    الأستاذة نجوى عطية

    بارك الله فيكم وجزاكم الله خيرا

    منذ أسبوعين