تحفيظ القرآن الكريم للأطفال عن بُعد ( خطوات عملية )
منذ يومين
39 مشاهدة

تحفيظ القرآن الكريم للأطفال عن بُعد ( خطوات عملية )

أكاديمية تواقة

الحمد لله رب العالمين، القائل في محكم تنزيله وجميل بيانه: ﴿إِنّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظونَ﴾ (سورة الحجر، الآية 9). والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المتقين، الذي اصطفاه الله لحمل الرسالة، القائل: "اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ" (رواه مسلم).

إلى كل نفس تواقة للعلا، تسعى لتربية النشء على مائدة القرآن، ولتزرع في قلوب صغارها أشجار اليقين وثمار الهدى. إنكم يا أهل القرآن تسيرون على نهج السلف الصالح، وتصنعون أجيالاً موصولة بكلمات ربهم. وفي هذا العصر الذي تطورت فيه وسائل الاتصال، لم تعد المسافات عائقاً أمام هذا الشرف العظيم، بل أضحى التعليم عن بُعد جسراً نورانياً يربط أقصى الشرق بأقصى الغرب. إن مهمتنا اليوم هي صياغة أفضل الطرق لغرس كتاب الله في قلوب الأطفال عبر الفضاء الرقمي، بأسلوب يجمع بين عراقة التلقي وقوة الجذب الرقمي وتأثير الغرس التربوي.

 

1. شرف المقصد وأهمية البداية: فضائل وأصول

إن تحفيظ القرآن للطفل ليس مجرد ملء لذاكرة، بل هو تشكيل لعقل، وتهذيب لروح، وتقوية للسان. وقد أشار العلماء إلى فضل الحفظ في الصغر ورسوخه، فقلب الصبي "جوهرة نفيسة ساذجة، خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما يُنقش فيه" كما قال الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه “إحياء علوم الدين”

السن المناسب والتلقي المتقن: ينبغي استغلال ملكة الحفظ القوية في مرحلة الطفولة، وقد استحسن جمهور العلماء تحفيظ القرآن للأطفال لكونه "أدعى إلى ثبوته ورسوخه عندهم" كما ذكر الدكتور سعيد بن صالح الرقيب في كتابه "كيف تحفظ القرآن الكريم" 
. أما عن أهمية التلقي، فلا يستقيم الحفظ ولا التلاوة بدونها، فالقرآن يُؤخذ "بالتلقين والأخذ من فم المشايخ المتقنين"، وهذا يضمن سلامة النطق والتزام أحكام التجويد التي هي بمثابة صون لكلام الله من اللحن.

الاستعداد بالتقوى والنية الصالحة: قبل الحفظ، يجب غرس النية الصادقة والتقوى في نفس الطفل وولي أمره، لأن التيسير والتعليم من الله مرهونان بتقواه. قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (سورة البقرة، الآية 282). وقد أوضح الشيخ عبد الله بن صالح العبيد في كتابه "فقه قراءة القرآن"  أن أعظم ما يعين على الحفظ هو تقوى الرحمن، مشيراً إلى أن الحفظ ليس بأكل الزبيب (في إشارة إلى المقولات الشائعة)، بل بالتقوى وصدق النية.

 

2. الطرق المنهجية المعتمدة في التحفيظ عن بُعد

في بيئة التعليم الافتراضي، يجب أن تتسم الطرق بالاحترافية لتعويض الاتصال المباشر، ودمج التقنية لضمان الانضباط والتركيز.

أولاً: طريقة التكرار والتجزئة (التلقين المُنظَّم): تظل طريقة التكرار هي الطريقة السائدة الأولى لترسيخ المحفوظ. وقد أشار الدكتور سعيد الرقيب في "كيف تحفظ القرآن الكريم" إلى أن "التكرار والتعاهد المنظم" هو من أهم أساليب وقاية حافظ القرآن من النسيان.

التلقين المسموع والمكرر: يبدأ المعلم بتلقين مقطع صغير (لا يزيد عن ثلاثة أو خمسة أسطر في البداية) بترتيل متقن، ويجب على الطفل أن يكرر خلفه عدة مرات ثم يكرر بمفرده (البعض يوصي بـ 7 إلى 10 مرات). هذا التكرار يتم عبر منصات الاتصال المرئي، مما يضمن سماع المعلم وإشرافه المباشر على النطق.

تحديد الكمية المناسبة: يجب أن تكون كمية الحفظ اليومية مناسبة لقدرة الطفل حتى لا يمل أو يُحمل فوق طاقته. يقول الشاعر:

ما ضرّ سعيك إن بقيت متعتعًا.. ما دمت مجتهدًا بلا إهمال.

ثانياً: ربط الحفظ بالفهم واللغة العربية: إن القرآن هو المعجزة اللغوية الخالدة، وحفظه يُكسِب الطفل ثروة لغوية هائلة.

فهم المعنى الإجمالي: يجب ألا يقتصر الحفظ على الأصوات، بل يتعداه إلى المعنى الإجمالي لـ "ينمو الطفل عقليا وتكون مادة الحفظ في مستوى إدراكه" (كيف تحفظ القرآن الكريم، د. سعيد الرقيب). يقوم المعلم بشرح بسيط جداً للآيات، مع ربطها بمواقف حياتية أو قصص الأنبياء. قال تعالى مُبينًا فضل التدبر: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ أَم عَلى قُلوبٍ أَقفالُها﴾ (سورة محمد، الآية 24).

تعزيز اللغة العربية: تحفيظ القرآن الكريم ينمي مهارات اللغة لدى الطفل الناطق بها وبغيرها. هذا التدريب اللغوي المبكر يعمق ارتباط الطفل بلغة القرآن، التي هي مفتاح فهم السنة والعلوم الشرعية، كما أكد الشيخ محمد بن إبراهيم الدويش في "دروس الشيخ محمد الدويش على أهمية اللغة العربية لكونها "الوسيلة لفهم القرآن، ولفهم السنة".

 

3.  تحفيز الأطفال على حفظ القرآن، تقنيات تعليم القرآن.

الطفولة ترتبط باللعب والتحفيز البصري، ويجب أن يكون التعليم عن بُعد مُسخِّراً للتقنية لخدمة هذا الجانب.

أولاً: الجذب البصري والتفاعلي: يمكن للمعلم أن يستخدم أدواته الرقمية لعرض بطاقات ملونة للآيات، أو رسومات مبسطة معبرة عن المعاني، مما يدخل في باب تحبيب الطفل في القرآن. وقد أشار علماء التربية في "طرق تدريس التربية الإسلامية". إلى ضرورة إدراك المعلم للأهداف الأساسية لتدريس القرآن، ومنها "تكوين عقلية منهجية لدى الطالب في الحكم على تصرفات الآخرين"، وهذا لن يتم إلا بالربط الجاذب.

ثانياً: المكافأة والتشجيع: التحفيز هو الوقود الذي يدفع الطفل للاستمرار. يجب على المعلم إرسال مكافآت افتراضية وشهادات تقدير مصممة رقمياً لتقدير جهد الطفل، وتذكير ولي الأمر بأهمية هذه اللحظات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ لَا يَرْحَمْهُ اللَّهُ" (صحيح البخاري). ورحمة الطفل تشمل تشجيعه والثناء عليه.

 

4. منهج المراجعة ووقاية المحفوظ من النسيان.

الحفظ دون مراجعة كالبناء دون أساس. وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خطورة نسيان القرآن بعد حفظه.

التعاهد المستمر: التعاهد هو التكرار المُنظَّم الذي يحفظه في قلب الحافظ من التفلت، وهو واجب شرعي. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَعَاهَدُوا القُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا" (صحيح البخاري، ).

خطة المراجعة الدورية: يجب تقسيم وقت الدرس عن بعد إلى جزأين: جزء للحفظ الجديد، وجزء للمراجعة القديمة، مع تخصيص يوم كامل في الأسبوع للمراجعة الكلية للمحفوظ (التثبيت).

الربط اللفظي والمعنوي: عند مراجعة المتشابهات، يجب على المعلم أن يعرض للطفل الفروق البسيطة بين الآيات المتشابهة في اللفظ، مع توجيهه إلى دلالة كل آية، وهذا يرسخ الحفظ بقوة.

 

5. دور ولي الأمر في إنجاح التعليم عن بُعد

نجاح تحفيظ القرآن عن بُعد للأطفال يعتمد بنسبة كبيرة على بيئة الطفل المنزلية وشراكة ولي الأمر.

القدوة والبيئة: يجب أن يرى الطفل والديه يقرآن القرآن ويتعاملان معه بتبجيل، ليكون القرآن جزءاً من حياة الأسرة. قال الشاعر:

وَيَنشَأُ ناشِئُ الفِتيانِ مِنّا عَلى ما كانَ عَلَّمَهُ أَبوهُ

توفير التركيز: إعداد مكان هادئ ومناسب لوقت الحصة عن بُعد، والحرص على "الالتزام بنسخة واحدة من المصحف الشريف" ،حتى يتم ربط الحفظ بالصورة البصرية للمصحف، مما يساعد على التذكر.

المتابعة اليومية: جلوس ولي الأمر مع الطفل بعد انتهاء حصة المعلم لمراجعة ما حفظه والتسميع له وتثبيت المعلومة.

الختام:

إن تحفيظ القرآن الكريم للأطفال هو مشروع الأمة الذي يؤسس لجيل متصل بربه، لسان حاله لغة الضاد، وعمله مستمد من هدي خير العباد. فاجعلوا التعليم عن بُعد فرصة لا عائقاً، وبأدوات العصر، استثمروا في  رياض الإيمان التي أمرنا برعايتها. فاللهم اجعلنا وأولادنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك.

والله ولي التوفيق.

التعليقات